حسان أسود : حافظُ الأسد لم يمُتْ بعد!

0

– حسان أسود –

قد يكون الأمرُ خياليّاً، لكنّه مألوفٌ وغير مُستغربٍ لدى كثيرٍ من السوريين، فشعاراتٌ من مثل إلى الأبد يا حافظ الأسد طالما ردّدها أبناءُ وبناتُ سوريا بدءاً من الحضانات وحتّى آخر مراحل التعليم الجامعي على مدار ثلاثين عاماً ونيّف لم تزل ماثلة في الأذهان، بل وفي سلوكيّات وتصرّفات الكثير من الناس الذين عاشوا تلك الحقبة السوداء.

استطاعَ حافظُ الأسد بعد أن قضى على مراكز القوى المدنية والعسكرية في سوريا التي كانت متحكّمة في مفاصل الدولة إثر انقلاب 8-3-1963، أن يثبّتَ أركانَ حكمه الفردي بالحديد والنار، ومن مهازل القدر أن يترفّع وزيرُ دفاعٍ خسر الجولان، أو بالأحرى سلّمها كعربون صداقة لأمريكا وإسرائيل ويصبحَ رئيساً للجمهوريّة التي حوّلها إلى مَلكيّة وراثيّة بعد ثلاثين عاماً من حكمه.

بنى حافظُ الأسد مملكةَ الرعبِ أو “الدولة المتوحّشة” كما أسماها ميشال سورا في كتابه الذي يحملُ نفس العنوان ضمن استراتيجّية متكاملة قائمة على الإرهاب والإفساد، فكانت حالتا الخوف والفساد في سوريا، كما في غيرها من المجتمعات المغلقة المحكومة من نُظُمٍ ديكتاتوريّة، ليس فحسب مجرّدَ حالة فيزيولوجيّة، بل حالة نفسيّة وعقليّةٌ تتجسّدُ في الواقع كطريقةِ تفكيرٍ وأسلوبِ حياةٍ ومنهجِ تربيةٍ وتعليمٍ وعملْ، أي كسلوكٍ اجتماعي كاملْ.

قامتْ مملكةُ الرعبِ التي بناها حافظُ الأسد كمنظومة متكاملة على أركانٍ عدّةٍ، من مثلِ جهازِ الجيشِ كوسيلة لتحطيم الروح الوطنية لا إنمائِها، وأجهزةِ المخابرات الهمجيّة لقتل حرّيةِ التفكير والإبداع واعتقال الفضاء السياسي والفكري، وأجهزةِ الإعلامِ المختلفة التي ساهمت

استخدمَ حافظُ الأسد جميعَ مؤسسات الدولةِ التربوية والتعليمية وأجهزة القضاء والأجهزة التنفيذية لتحقيق غايته في القبض على المجتمع

بتمييع الفكر وتسطيحه وسحبه إلى مهاوي التفاهة والابتذال، كما اعتمدت بشكل رئيس على سلطة رجال الدين المجتمعيّة الهائلة، التي استطاع حافظ الأسد كغيره من الحكّام المتسلّطين، استخدامها بشكل ممنهج لتحطيم مقاومة المجتمع وللسيطرة عليه وتوجيه حركة تطوّره الطبيعيّة باتجاهات عقيمة تكرّس وتعيد تكريس الفساد والاستبداد.

استخدمَ حافظُ الأسد جميعَ مؤسسات الدولةِ التربوية والتعليمية وأجهزة القضاء والأجهزة التنفيذية لتحقيق غايته في القبض على المجتمع، كما استخدم أساليباً نازيّة مثلَ تسريبِ الأخبار عن معاناةِ المعتقلينَ لترهيبِ بقيةِ المجتمع واستخدمَ الإشاعةَ والأخبار الكاذبة وكلّ ما أمكنه استخدامه لتحقيق هذه الغاية.

كانت النتيجةُ أن عاشتْ أجيالٌ وماتتْ، وولدتْ أخرى وترعرعتْ في ظلّ منظومةِ الاستلابِ هذه، وقد تركتْ في الأنفُسِ والسلوكيّاتِ أثاراً غير قابلةٍ للتغيير أو الزوالِ بسرعةٍ، على الأقلّ ليس بفعلِ تراكمِ أشهرٍ وأعوامْ، فقد يحتاجُ الأمرُ بالفعل ِعُقوداً طوالْ.

اللافتُ للنظرِ أنَّ هذه المنظومةَ كُسرتْ جُزئيّاً أوّل أيام الثورة، فكانت حالةُ الاندفاعِ الشعبيّةِ طاغيةً مما ولّدَ لدى الأفرادِ بالتبعيّة والحلولْ هذا الشعورَ بالقوّة والمَنَعةِ ضدّ الخوفِ والاستلابْ، فكانت حالاتُ التضحيةِ والفداءِ في أوجِها، وكانت حالاتُ نُكرانِ الذاتِ في أبهى صورِها. لكن مع انتقال الثورة إلى طَورها المسلّحْ وتسلّم العملِ العسكري من قبل ثوّارٍ غير متخصصين بهذا الشأن في غالب الأحيان، ومع غيابِ طلائع الثوّار المدنيين شيئاً فشيئاً، ومع اضمحلال شعارات الثورة وتنكُّسِ رايتها في ظلّ تسيُّدِ بعض الشعارات والرايات ، ذرَّ قرنُ الشرِّ من جديد وعادت ” حليمة لعادتها القديمة” كما نقول بالعاميّةِ الدارجة.

عواملُ الارتدادِ والنكوصِ إلى موروثِ الرعبِ والخوفِ كثيرةٌ وغير قابلة للحصر، ويمكننا بالحدّ الأدنى أن نتحدّث عن فشلٍ واضحٍ في إدارة ملفّاتٍ عديدة في الثورة السوريّة، يبدأ أصغرُها من سلّة الإغاثةِ، ولا ينتهي أكبرُها عند تشكيل قيادة سياسيّة تكونُ مهمّتُها الأولى ترجمةَ تضحياتِ السوريين كنتائج قابلةٍ للصرفِ في بازارِ المصالحِ الدوليةِ مقابل مصالحِ الشعبِ السوري.

خلقَ هذا الفشلُ حالةً من الضياعِ وفُقدان البوصلة، وهذا بدوره عزّزَ من حالة الفشلِ، فجدليةُ العلاقةِ تقتضي التأثير المتبادل بالاتجاهين. وأتت ظاهرة الفساد والمحسوبيّات فيما أُطلق عليه تسمية “مؤسسات الثورة” كحالة طبيعيّة تستكمل مشهد الانحلال المجتمعي الخطير الذي ثار عليه السوريّون أساساً، فبات الولاءُ مقياس التوظيف الإداري وباتت المحسوبيّات معيار القرب من مراكز صنع القرار، وباتت الكفاءة مركونة على الرفّ كما هو حالها في أروقة دوائر ومؤسسات دولة الأسدين الأب والابن، بل أسوأ بكثير. فعندما يحتاج نظام الحكم في سوريا مخاطبة الرأي العام الدولي أو العربي، وعندما يحتاج مخاطبة الدول والمؤسسات الدولية أو المنظمات الدولية المختلفة، فإنّه يكلّف أمهر الكفاءات السوريّة المتوفّرة بكثرة في سوريا وخارجها، وإذا اقتضى الأمر تخصّصاً ما غير متوفر سوريّاً، فإنه يتعاقد مع أفضل المتخصصين من الشركات والأفراد، بينما نجد “مؤسسات الثورة” تطرد من يمكن أن يكون كفؤاً أو مؤهّلاً بأي شكل من الأشكال، لأنّ وجوده ببساطة سيعرّي متولّي المهام والمناصب بلا أية جدارة وبلا أي استحقاق.

الكثيرُ من حالات الاستلابِ للقائدِ الرمز الخالد البطل المناضل المقدام …حافظ الأسد عادت للتجسُّدِ بقائدِ الفصيل أو صاحبِ رأس المال المانح للعطايا أو المموّلِ للمشاريع أو الكافلِ لأسر الشهداء…إلخ.

ثمّةَ فارقٌ بسيطٌ يتمثّلُ أحياناً بطبيعةِ مهنةِ أو حرفةِ أو حياةِ الشخصِ المُستلب في عهدِ الأسدين، لكنّه يبقى فارقاً كمّياً لا نوعيّاً.

لا يخفى البعدُ الاجتماعيُّ عن عينِ الباحثِ الحصيفِ، وكذلك العواملُ

كيفَ يمكنُ لسنواتٍ سبعٍ من عمرِ الربيعِ العربي أن تُعيدَ تكوينَ العقلِ الجمعي ما دامتْ لم تترافقْ مع حالةِ تثويرٍ ثقافيٍ لتصلِ في النهاية إلى القطعِ التاريخي مع جوهر الاستبداد والاستلاب؟

التاريخيّةُ المتشابكةُ بالثقافة والدينِ، لكنّ يبقى العاملُ السياسيُّ الأساسَ في تكوين حالةِ الاستلاب والخوف المزمنةِ في مجتمعاتِ الشرقِ الأوسطْ، طبعاً باستثناء المجتمع الإسرائيلي الذي يخضع لحالة مختلفة في النوعِ والجوهر.

فضاءاتٌ مُغلقةٌ على عبادةِ الفرد، مؤسساتٌ مُفرغةٌ من كلِ محتوى ديمقراطي وإنساني، ممارساتٌ توظيفيّةٌ للدين في خدمة السُلطان، عقودٌ بل قرونٌ من كبتِ الفكرِ الحرّ وتأجيلِ الإجاباتِ عن الأسئلة المُلحّة، لابدَّ وأن تخلقَ في النهايةِ إنساناً مقموعاً مشوّهاً مُنبتّاً.

كيفَ يمكنُ لسنواتٍ سبعٍ من عمرِ الربيعِ العربي أن تُعيدَ تكوينَ العقلِ الجمعي ما دامتْ لم تترافقْ مع حالةِ تثويرٍ ثقافيٍ لتصلِ في النهاية إلى القطعِ التاريخي مع جوهر الاستبداد والاستلاب؟

من هنا كان بحثُ مسألةِ نتائجِ حركاتِ التغييرِ على مجتمعاتٍ تحملُ في أرحامها أجنّةَ الاستبدادِ وعلى كاهلها شياطينَ التطرّفِ والتخلّفِ أمراً شائكاً محفوفاً بالمخاطرِ من كلّ جانبْ، لكنّه يبقى في كلّ الأحوال أحدَ أهمِّ القضايا التي يجبُ العملُ عليها بإخلاصٍ ورصانةٍ متناهيين، وإلى حين نُضجِ الظروف الموضوعيّة والذاتيّة لهذا القطع التاريخي سيبقى حافظُ الأسد حاكماً متوّجاً على مجتمعاتنا وعقولنا.

اترك رد