العدالة الإنتقالية

العدالة الانتقالية وفق رؤية التكتل

تعتبر مسألة “العدالة الانتقالية” القضية الرئيسة التي يجب العمل عليها بعد التغييرات الجذرية التي تصيب المجتمعات التي فجعت بالاقتتال والتدمير والانتهاكات التي خلّفت ضحايا ودماراً ماديّاً وتفكّكاً في البنى الاجتماعية وتخلخلاَ في وظائف الدولة .

ذلك أن الانتهاء من عهد الاستبداد وإعادة السلم الأهلي ووحدة المجتمع والمصالحة الداخلية يتطلب تهدئة النفوس برد المظالم وإعادة الحقوق لأصحابها والتعويض على المتضررين والكشف عن مصير المفقودين وإظهار حقيقة ما جرى وتحديد المسؤوليات وملاحقة مرتكبي الجرائم والانتهاكات ، كما إن إعادة بناء المؤسسات القضائية والقانونية، يعتبر شرطاً لازماً وضرورة ملحة لبناء المجتمع بعد ما جرى من قتل وتدمير، فلا يمكن أن تبرد روح الثأر والانتقام ومحاصرة الفوضى المحتملة، ما لم يشعر المتضررون بأن حقوقهم لن تضيع وأن المرتكب لن يفلت من العقاب، ولا يمكن للإنسان أن يغذي انتمائه إلى الوطن والمجتمع ويساهم ببنائه إذا لم يطمئن أنه سيحصل على ِالعدالة، وأن عهد الطغيان والاستبداد والاستئثار بالسلطة، ولّى إلى غير رجعة، وأن شمس الحرية ستبقى ساطعة دائماً.

إن مفهوم “العدالة الانتقالية” مفهوم استثنائي للعدالة يختلف عن مفهوم العدالة العادي بالأهداف والقواعد والمعايير والهيئات والآليات، لأن الظروف الاستثنائية تفرض معالجة استثنائية ولا تصح أو تستقيم معها قواعد وآليات العدالة العادية.
فهي تستلزم جملة من المعطيات، أبرزها الاعتراف بالانتهاكات المقترفة في حق الأفراد والجماعات، أي الجهر بالحقيقة والعمل على توضيحها، عبر التحري، والتقصي، والتحقيق في الأفعال والوقائع التي حدثت، وتوفير شروط الوصول إلى مصادر المعلومات، والتأكد من صحتها بكل الوسائل المتاحة، وهي لا تنحصر في الاعتراف بالمسؤولية عن الأفعال، بل تتجاوزه إلى الإقرار بعدم تكرارها وتوفير الظروف الموضوعية والذاتية لضمان عدم تكرارها ، فهي التزام معنوي وأدبي وقانوني علني بطي صفحة الماضي وعدم العودة إليه. والواقع أن المصالحة تشترط، علاوة على الكشف عن الحقيقة والجهر بها علانية وتعويض المتضررين وذويهم عن أضرار انتهاكاته، توفير لوازم عدم تكرارها في المستقبل، وهو ما يوجب إدخال الإصلاحات العميقة على منظومة القوانين، وبنية المؤسسات، وتغيير الثقافة الناظِمة لعلاقة الدولة بالمجتمع بشكل عام .
هي عملية تحوّل كبرى يتوجب إنجازها، كي تتحقق المصالحة، بحسبانها إمكانية لجبر الخواطر والأضرار، وإعادة بناء الثقة، وتحفيز الجميع، وخلق اللحمة الوطنية المطلوبة لإشعار الناس وإقناعهم بأن المصالحة تمت فعلاً، وأن الشعور بالأمن والأمان سينفذ إلى ووعيهم الجماعي.

هدف العدالة الانتقالية ليس إدانة المجرمين وتطبيق القانون فقط، بل أساسا إعادة السلم الأهلي وتحقيق المصالحة الوطنية ومحو آثار مرحلة الاستبداد التي تشجع على استمرار الخراب إذا لم يتم تجاوزها، وحفظ حقوق المتضررين بالتعويض الذي سيقع على عاتق الدولة عبر مؤسسة العدالة الانتقالية نفسها . كما تهدف إلى توفير مناخ القطيعة مع انتهاكات حقوق الإنسان، ودعم شروط التحول الديمقراطي، والاعتراف بما كابده الضحايا من انتهاكات، وتعزيز إمكانيات السلام والمصالحة والديموقراطية .
وتهدف أيضاً إلى إعادة صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع لتقوم على أساس من سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وحريته وكرامته.

ولابد من التأكيد أن “العدالة الانتقالية” في سعيها لتحقيق مقاصدها تهدف أيضاً إلى طمأنة من لم يرتكب جرائم وانتهاكات بعدم الملاحقة أو الاقتصاص أو التعامل معهم بروح ثأرية أو انتقامية.
كما تهدف أيضاً لتقديم ضمانات كافية لمن ارتكب جرائم أو انتهاكات، أن ملاحقتهم على أفعالهم ستجري وفق معايير العدالة العامة التي استقرت في ضمير الجماعة الإنسانية ومن ضمنها المحاكمات العلنية العادلة المقررة في المواثيق الدولية الناظمة لحقوق الإنسان والمتهم ومن ضمنها حق الدفاع والتقاضي على درجات .
وفي سعيها لتحقيق أهدافها ستقوم على هيئات قضائية وقانونية طبيعية لا تقتصر على قضاة وحقوقيين يديرونها بل سيكون من ضمن كوادرها متخصصون بالشؤون الاجتماعية وخبراء بمجالات عديدة يتطلبها إنجاح مسار العدالة الانتقالية ، فمثلاً ستتفرع عن مؤسسة العدالة الانتقالية عدة هيئات لها طبائع وتراكيب تختلف عن التركيبة القضائية، وتضم بعض ممثلي المجتمع وهيئاته المتنوعة لتشارك القضاة والمحاكم في تحقيق العدالة الانتقالية .

ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد، أن أي حديث عن صفح أو مسامحة محتملة، يجب توظيفه في إطار إرساء المصالحة، وليس لتغييب العدالة، ويجب أن تقتضيه الضرورة والاستثناء، لا أن يكون نهجاً له سمة عامة، فلا ينبغي أن يغلق الجرح وهو ما زال نازفاً دون تطهير، فيكون ناراً تحت الرماد يمكن تأجيجها بأي وقت، وبالتالي يجب أن يكون العفو محدودا وخاصا ويستعمل بشكل دقيق لإغلاق ملفات تم إنهائها أهليا وتمت المصالحات بشأنها.
تعتبر “العدالة الانتقالية” وتهيئة مؤسساتها وهيئاتها، من أولويات المرحلة القادمة، وعلينا أن نكون على أهبة الاستعداد والجاهزية لها، بل الشروع منذ الآن بتقديم المبادرات والاجتهادات لتهيئة الأسس والمقومات لها، وخاصة البدء الفوري بحملة شعبية لنشر مفهومها وتعريف المواطنين بها لنضع اللبنة الأولى لإعادة بناء سوريا الجديدة. 

 وفي سبيل تحقيق العدالة الانتقالية لأهدافها المنشودة هذه يجب العمل على:

1. إحداث صندوق لتعويض الضحايا عن الأذى المادي والمعنوي ، في النفس والممتلكات أو فقد المعيل، وذلك عبر لجان مختصة تقوم بالمسح الميداني لكل المناطق بوضع قائمة بأسماء الضحايا والمفقودين وتقدير قيمة الأضرار المادية وتحديد عدد المصابين والجرحى وتأمين استمرار علاجهم والبدء بإجراءات سريعة لإيواء المهجرين الفاقدين لمنازلهم وتسديد معونات سريعة لمن تضررت أوضاعه جزئيا لترميم منازلهم والسكن فيها . 

2. الملاحقة القضائية لمرتكبي الجرائم والانتهاكات، من جهاز قضائي و قضاة مشهود لهم بالنزاهة والحياد والاستقلال، للنظر بالجرائم المرتكبة خلال الأحداث ومحاكمة المجرمين، وإلزامهم بالتعويض، واسترداد الأموال المسروقة.
تشكيل لجان للسلم الأهلي والمصالحة الوطنية تضم شخصيات ثقافية وعلمية وقانونية وفنية ودينية واجتماعية ذات مصداقية للتوجه إلى المجتمعات المنقسمة على نفسها، التي شهدت نزاعات أو حساسيات دينية أو طائفية أو قومية لتهدئة النفوس وإرساء المصالح وتبديد الشكوك وإعادة الثقة بين مكونات المجتمع، والمساهمة أيضاً في الكشف عن مصير المفقودين والمختطفين والمعتقلين، والعمل على تقديم الدعم والعلاج النفسي لضحايا الانتهاكات.
3. تشكيل مكتب إعلامي مهمته القيام بحملة شاملة لشرح مفهوم العدالة الانتقالية ووسائلها وهيئاتها ودورها واستخدام كل وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء من أجل ذلك يديرها متخصصون قانونيون واجتماعيون. وتساعدهم في ذلك لجان من الشباب المتطوعين تشكل بالتعاون مع جمعيات أهلية ويجري تدريبهم لإيصال فكرة العدالة الانتقالية لكل المواطنين ومساعدتهم للتفاعل مع هيئاتها والثقة بها وتقديم طلباتهم اليها ومتابعتها.
4. إحداث مكتب لتخليد الذكرى والحقيقة، وتوثيق الأحداث التي مرت وتوضيحها وتأريخها بما في ذلك تخليد أسماء الضحايا الذين قضوا عبر النصب التذكارية أو إطلاق أسمائهم على المدارس والأماكن والساحات في المواقع الجغرافية التي سقطوا فيها، وإدخال هذه الحقائق في المناهج الدراسية حتى يكون ما مرّ على البلاد درسا يستفيد الجميع منه ويشكل عبرة ومأثرة للأجيال القادمة ، ولا تضيع التضحيات الكبرى التي قدمت بل تكون صورتها ماثلة دائماً في ذاكرة المجتمع وخالدة في ذاكرة الوطن.
5. العمل على إصلاح وهيكلة المؤسسات الرسمية وخاصة العسكرية والأمنية والقضائية التي اشتهرت بارتكاب أبشع الانتهاكات لحقوق الإنسان.

وأخيراً، من المسلم به في هذا السياق أن البوابة في تطبيق “العدالة الانتقالية” يتمّ عبر استحداث نص دستوري، أو تشريعي يلتزم الدولة بتطبيق منظومة “العدالة الانتقالية” في جميع مجالاتها، ضمن مدة زمنية تحدد في القانون لكل مرحلة منها،
ولابد أن ينص أي دستور أو إعلان دستوري مستقبلي، أنه لا يقبل في تطبيق أحكام “العدالة الانتقالية” أي دفع بالتقادم على الجريمة أو الفعل، أو عدم رجعية القوانين، أو بوجود عفو سابق، أو بحجية حكم قضائي، أو تلقي أوامر من رؤساء أعلى مرتبة أو غيرها من أساليب دفع الدعوى المعتبرة في مجال العدالة الجنائية الاعتيادية .