متحصّنة بموافقة كاملة وشبه إجماع بين الأحزاب التركية المختلفة وأولها أحزاب المعارضة، وبعد تحضيرات استمرّت أشهراً، وبعد تفاهمات ومفاوضات كثيرة بين مع الفاعلين الدوليين في الملف السوري وعلى رأسهم بلا شك الأمريكان والروس، وبتاريخ 9-10-2019 بدأت العملية التركية المسمّاة “نبع السلام” في منطقة شمال شرق سوريا. قدّمت القيادة التركّية لهذه العملية مبررات قانونية استندت إلى اتفاقية أضنة الموقعة في 20 تشرين الأول عام 1998 بين الدولتين التركية والسورية بوساطة الجامعة العربية وبجهود مصرية إيرانية، والتي تسمح لها بالتدّخل في الأراضي السورية لحماية أمنها القومي.
أظهرت العمليّة مدى الانقسام السياسي على الصعد الدولية والإقليمية والمحلية السورية. فقد وقف الاتحاد الأوروبي – على الأقل ظاهريّاً – ضدّ التدخّل التركي حسبما عبّر عنه دونالد توساك رئيس المجلس الأوروبي بقوله من نيقوسيا بعد انطلاق العملية مباشرة: “على تركيا أن تتفهّم قلقنا الرئيس من أن تؤدي أفعالها إلى كارثة إنسانية أخرى. كما إننا لن نقبل أبداً استغلال اللاجئين واستخدامهم كسلاح لابتزازنا، وتهديدات الرئيس أردوغان أمس في غير محلّها بالمرّة” ، كما ظهرت مواقف متقاربة من أغلب دول الاتحاد تدعو بمجملها لفرض عقوبات على تركيا وإعادة تقييم العلاقة معها. لكننا نجد بالمقابل أنّ هذه العملية تخدم بشكل كبير ومباشر المصالح الأوروبيّة بعيدة المدى. فملف اللجوء من أكثر الملفات سخونة وتهديداً لاستقرار أوروبا، وقد شاهدنا صعود اليمين في مجمل أنحاء القارّة العجوز نتيجة استخدامه الشعبوي لهذه المسألة وتضخيمها بحيث باتت معاداة اللاجئين من أبرز عناوين برامج الأحزاب اليمينية. تعرف جميع حكومات دول أوروبا ذلك، بل قد تُظهر الأيام أنّها كانت تدعم في الخفاء العملية التركية بهدف الانتهاء من هذا السيف المسلّط عليها.
ستكون حكومات أوروبا أكبر المستفيدين من إنشاء مناطق آمنة شمال شرق سوريا، ولن تنحصر عودة وإعادة السوريين المهجّرين واللاجئين في أبناء هذه المنطقة فحسب، بل ستتعدّاهم إلى كثيرين غيرهم من مختلف المناطق، ولن تقتصر على المقيمين منهم في تركيا، بل ستشمل بلا شك الكثيرين ممن هم الآن في اليونان وبقية دول أوروبا. لا تعطي التصريحات السياسية في كثير من الأحيان الإشارات الدامغة على حقيقة المواقف والمصالح، وعلينا أن ننتظر الإجراءات الفعلية التي سيكون من شأنها إثبات صدق التصريحات من عدمه.
الموقف الأمريكي الملتبس بين تصريحات الرئيس ترامب وأركان إدارته المختلفة، توضّحه التحركات على الأرض وفي مجلس الأمن. ثمّة تضارب كبير بين مواقف المؤسسة العسكرية وموقف الرئيس الأمريكي، حيث ترى الأولى أنّ قرارات الانسحاب التي يتخذها ترامب مزاجّية نابعة من هواه الشخصي، وهذا قالته الصحافة الأمريكية أيضاً، وتدلّل على رأيها بأنه عليه الانسحاب من العراق وأفغانستان إن كان صادقاً في زعمه حماية أرواح الجنود الأمريكيين. كذلك تعارض رئيسة مجلس النواب نانسي بلوسي ومن خلفها مجموعة كبيرة من الديمقراطيين وبعض الجمهوريين قرار ترامب، وتصف العقوبات التي أصدرها على كيانات وزارية تركية ومسؤولين أتراك – إثر عملية نبع السلام – بالضعيفة والهزيلة، وهي تسعى بالتنسيق مع الجمهوريين لاستصدار قرار بإلغاء قرار الانسحاب من شمال سوريا.
لكن الحقيقة تقول إنّ القرار النهائي في هذه المواضيع يعود للرئيس وما على المؤسسات الأخرى سوى الانصياع والتنفيذ، فلا يمكن للقادة العسكريين أو حتى لوزير الدفاع أن يخالف قرار الرئيس هذا.
إذن، جاء انسحاب القوات الأمريكية من بعض مناطق انتشارها دليلاً على إفراغ ساحة العمليات من أي عائق فعلي، وإن صحّت المعلومات المُتناقلة عن استهداف طائرات التحالف رتلاً لقوات تابعة لنظام الأسد في منطقة الرصافة يوم الأحد الماضي، تكون الصورة الميدانية قد توضّحت نوعاً ما. يعزّز هذا الرأي، الاعتراض الأمريكي على مقترح إدانة العملية التركية في مجلس الأمن، ويدلّل على سياسة الولايات المتحدة الحقيقية وموافقتها الأكيدة على عملية “نبع السلام”.
أما الموقف الروسي فهو أوضح من أن يُشرح، وقد اعتدنا على جلافة رئيس الدبلوماسية الروسية في مثل هذه الحالات لولا أن يكون الأمر قدّ تمّ بكامل التوافق مع الروس. توضّح ذلك مواقف الكريملين المعلنة التي تقول بأنّه ما من تطابق كامل في المواقف الروسية مع الرؤية التركية في سوريا، وهذا يعني أنّ هناك اتفاق واضح بين الطرفين وتفويض صريح لتركيا بالقيام بهذه العملية. يُضاف إلى ذلك الاعتراض الصريح على مقترح الإدانة الذي قُدّم من بعض الدول الأوربية في مجلس الأمن. يبدو بأنّ التفاهمات الروسية التركية المستمرّة منذ بداية الأزمة تأخذ طريقها إلى أرض الواقع، ويبدو أنّ دور الأتراك الحقيقي والفاعل في سوريا هو هنا في شمال شرق سوريا، وليس في مناطق شمال غربها وصولاً إلى ريف حماه في الوسط، حيث بقي هناك مجرّد دور الضامن لتمرير وتبرير تنفيذ الروس حصّتهم من الاتفاقات بين أطراف أستانة الثلاثة.
أمّا موقف الجامعة العربية التي تداعى أعضاؤها على وجه السرعة لإدانة هذه العملية، فقد كان لافتاً للأنظار، واللافت أكثر استغلال بعض الدول هذا الأمر واتخاذه ذريعة للمطالبة بإعادة نظام الأسد إلى صفوفها لاستلام مقعده الشاغر منذ سنين. لا يعلّقُ السوريون بكلّ تأكيد ولا العربُ أملاً على قرارات الجامعة، لكنّ الدهشة تعتري الكثيرين من سرعة انعقاد اجتماع وزراء الخارجيّة العرب، مقارنة بصمتهم المُطبق عن دخول حزب الله والإيرانيين والروس جهاراً نهاراً لصالح نظام الأسد، الذي على ما يبدو أنهم لا يختلفون عنه بالجوهر.
سيكون من نافل القول شرح مدى تهافت مواقف أغلب الأنظمة العربية مما يجري في سوريا عموماً ومن عملية نبع السلام خصوصاً، مع ذلك سيكون من المفيد الإشارة إلى بعض الجوانب الهامّة التي تغفلها هذه الأنظمة المهترئة. فأولاً نرى صفاقة هذا السلوك المخزي والمشين أخلاقياً (المقصود هنا المطالبة بعودة نظام الأسد لاستلام مقعد سوريا في الجامعة رغم ما ارتكبه من مجازر بحق الشعب السوري)، وثانياً الإخلال بالأمن القومي العربي بإدخال نظام سلّم سوريا بأسرها لتدخلات أجنبية لا تُعدّ ولا تحصى، وثالثاً الانحياز الواضح لمحور إيران الذي بات قاب قوسين أو أدنى من الاستيلاء على هذه الجامعة ذاتها!
موقف النظام السوري من محاولات قادة ” قسد” العودة إلى حضنه أوضحها نائب وزير الخارجية فيصل المقداد، الذي صرّح برفض الحوار معهم متهماً إياهم بالخيانة والعمالة لأميركا، ولم تظهر للآن حقيقة الاتفاقيات التي يحاول قادة ” قسد “ إبرامها مع ممثلي النظام الأمنيين والعسكريين بوساطة مركز المصالحات الروسي في قاعدة حميميم. وعلى صعيد السياسة الخارجية لم تتقدّم الدبلوماسيّة السورية بأية شكوى لمجلس الأمن حول التدخّل التركي، ومعلومٌ أنّ اجتماع مجلس الأمن تمّ بدون طلب سوري مثله مثل اجتماع وزراء الخارجيّة العرب.
ثمّة من يرى أنّ النظام السوري قد اتفق مع القيادة التركية على العملية من خلال الروس والإيرانيين، ويسوقون لدعم رأيهم الحجّة القائلة بأنّه المستفيد الأكبر منها، باعتبار أنها ستخلّصه من الميليشيا الكردية المدعومة أمريكياً وأوروبياً ومن بعض الأطراف الخليجية دون أن يطلق رصاصة واحدة، ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ النظام السوري لم يثق يوماً بهذه الميليشيا ولم يحترمها أساساً، بل استخدمها في مناطق محددة شمال سوريا لقمع الأكراد والعرب المناهضين له منذ بداية الثورة السورية، وها هو الآن يصّفي الحسابات معها بعد أن خرجت عن طوقه وباتت مصالحه تتعارض مع بقائها. لا تخلُ هذه الآراء من الوجاهة خاصّة وأنّ قوّات النظام تحرّكت فعلاً باتجاه بعض المناطق التي كانت تسيطر عليها قوات “قسد” لكنّ الصورة لن تتوضح إلّا بمرور الوقت، خاصّة وأنّه لم يمض على انطلاق العملية حتى لحظة كتابة هذا المقال سوى أسبوع واحد فقط.
لا يختلف موقف السوريين من عملية “نبع السلام” عن موقف المجتمع الدولي، فقد انقسموا بين مؤيّد ومعارض ومتحفّظ، ولكلّ مبرراته بلا أدنى شك. لن يكون بالوسع الدخول في هذه المبررات الآن، لكن لا بدّ من التأكيد على النقاط التالية، التي نعتقد إنها محقّة من وجهة نظرنا على الأقل:
- إنّ التدخلات الأجنبية في الشأن السوري لم تكن نتيجة لمطالبات السوريين بحقّهم المشروع بأن يتولّوا حكم بلادهم – كما بقيّة البشر- بواسطة نظام وطني ديمقراطي شرعي، بل هي نتيجة لسياسة النظام الديكتاتوري الذي استجلب الجيوش والمليشيات واستدعى المرتزقة وشذّاذ الآفاق من كل حدب وصوب، ونتيجة لسكوت المجتمع الدولي وتخلّيه عن مسؤولياته الأخلاقية والسياسية والقانونية.
- إنّ مواقف الدول المختلفة من الصراع الجاري في سوريا، لا تنبع ولم تنبعُ في أي يومٍ من الأيام من حرصها على حقوق الإنسان هناك، بل من مصالحها التي تحاول حمايتها بكلّ الوسائل.
- لن تكون معالجة الملف السوري ناجعةً، دون وجود إرادة دولية حقيقية في إنهاء الاستبداد وتحقيق الانتقال السياسي الذي هو الخطوة الأولى في إعادة بناء سوريا وبنائها مجدداً كدولة فاعلة في محيطها وفي المجتمع الدولي. وهذا يجب أن يتم ضمن إطار واضح من الشرعية الدولية وبرعاية أممية، نظراً لتضارب مصالح الأطراف المتدخلة بالشأن السوري، وتعارضها مع مصلحة السوريين أصاحب الأرض والقضية.
- إن تصريحات الحكومة التركية حول رغبتها نقل مليوني سوري من مناطق مختلفة من تركيا، وبناء مدن جديدة لهم في منطقة ذات حساسية إثنية وعرقية، قد تحمل بعداً خطيراً على النسيج الوطني السوري، ويمكن أن تكرّس الانقسام الحاصل أساساً بين السوريين. إن هذه العملية إن تمّت واكتملت أركانها، بتوطين مجموعاتٍ من غير سكّان المنطقة الأصليين الذين هربوا أو هُجّروا منها بسبب ظروف الحرب، قد تشكّل عملية تغيير ديمغرافي وقد تكرّس ما بدأه النظام وحلفاؤه من خلال تهجير سكان مدن وبلدات كثيرة في جميع أنحاء سوريا. وتفادياً لهذه المشاكل المحتملة يجب أن تكون عملية إعادة السوريين مقتصرة على أهالي المنطقة الذين هُجروا منها، وعلى أن تكون عودة طوعيّة بملء إرادتهم وبكامل حريتهم واختيارهم.
- إنّ تنظيم قوات سوريا الديمقراطية وما تفرّع عنه لا يمثّل إرادة السوريين من كرد وعرب، وبالتالي لا بدّ من أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار عند ترتيب النتائج على مقتضياتها، فيجب عدم الخلط بين موقف هذا التنظيم من الثورة ومحاربته تطلعات السوريين بالتحرر من الاستبداد واصطفافه مع النظام وتنفيذ أجنداته، وبين حقوق الأكراد بالمواطنة السورية الكاملة ضمن إطار الدولة السورية الوطنية الموحّدة والخالية من الاستبداد مستقبلاً.
هكذا يمكن أن نقرأ الوضع السوري والحل المنتظر رغم كل تعقيدات المشهد وآخرها عملية ” نبع السلام “، والأيام حُبلى بما لا نعرف بعد.
حسّان الأسود 15.10.2019