حسان الأسود
أوضحت كارثة الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال غربي سوريا الكثير من الحقائق، فبات السوريون، وبما لا يدع مجالًا للشكّ، الحلقة الأضعف في سلسلة الحلقات المتداخلة في المشهد الإقليمي كلّه. ولو جئنا للواقع، فمن غير الطبيعي أن يكونوا عكس ذلك؛ فمجمل الظروف التي تركتهم نهباً لنظام الأسد طيلة اثني عشر عاماً لم تتغيّر، ذلك أن موازين القوى التي جعلت نظام الحكم في بلادهم يستعمل ضدّهم الأسلحة المحرمة والمحظورة، وتحت أنظار دول العالم أجمع، هي ذاتها السائدة الآن، ولن تقيهم بطبيعة الحال أهوال الكوارث غير البشرية. لكنّ الكارثة الأخرى المرافقة للزلزال، هي تلك الفاجعة السياسية التي أظهرت حجم الانقسام السياسي في سوريا، كما أظهرت حجم التبعية والارتهان للقوى الخارجية أيضاً.
في الوقت الذي أبدت فيه الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا على لسان الرئيسة المشتركة للمجلس التنفيذي فيها السيدة بيرفان خالد، استعدادها لفتح المعابر ونقل المساعدات عبر مناطقها إلى المناطق المنكوبة غرب سوريا، نرى السيد عبد الرحمن مصطفى رئيس “الحكومة المؤقتة” يرفض هذا العرض متهماً مجلس سوريا الديمقراطية “بالمتاجرة بآلام المنكوبين”. كذلك نرى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وقد التزم الصمت المطبق، وكأنّ ما يحصل هناك شأن خارجي لا علاقة له به، فلم يصدر عنه سوى بيان خشبي أدلى به أمين عام الائتلاف بعد الكارثة بساعات، ولم يتبعه بأي تحرّك على الأرض.
ثمّة لغط كبير حول الموقف التركي ذاته من السماح لقوى الأمر الواقع المتحكمة بمناطق شمال غرب سوريا بقبول المساعدات القادمة من مناطق الإدارة الذاتية، ليس هذا فحسب، بل هناك إشارات استفهام كثيرة حول فتح المعابر لمرور المساعدات المخصصة للسوريين والتي جمعها أهلهم من تركيا ومن خارجها. الكثير من الموجودين على الأرض يتكلمون عن إجراءات تعجيزية تفرضها السلطات التركية، ليس أقلها الرسوم المفروضة على المواد المشحونة باعتبارها بضائع تجارية لا مساعدات إنسانية. وقد يتفهّم المرء الضغوط التي تتعرّض لها الحكومة التركية، والاستحقاقات الكبيرة المفروضة عليها أمام هول الكارثة، لكن هذا لا يعطيها الحق مطلقاً بمنع المساعدات المخصّصة للمنكوبين السوريين من العبور، أليس هؤلاء بشر مثل الأتراك أيضاً، أليست تلك المساعدات قادمة لهم خصيصاً؟.
على العكس من ذلك كلّه، كانت الاستجابة الأميركية لهذه الكارثة هي الأسرع على الإطلاق، فقد صدرت التعليمات من الرئيس جو بايدن وعدد من مساعديه مباشرة وخلال ساعات معدودة لتقديم جميع أشكال العون الممكنة للسوريين والأتراك. كذلك فتحت المملكة العربية السعودية أبواب التبرّع الشعبي لجمع الأموال والمساعدات، ولحقتها ألمانيا ودول أخرى أرسلت فرق الإنقاذ والمعدّات والمساعدات العينية. والأهمّ من هذا وذاك كانت الهبّة الشعبية الكبيرة للسوريات والسوريين من كل أصقاع الأرض، الذين تعاضدوا وتكاتفوا يجمعون المال والخيم والثياب والأدوية وكل ما استطاعوا إليه سبيلًا ليرسلوه إلى أهلهم المنكوبين. ونذكر هنا في هذا المقام ما جمعه أهالي حوران خلال يوم واحد من “فزعتهم” إذ بلغ مقدار ما جمعوه مليار ليرة سورية من الداخل فقط، وهذا غير ما تبرّع به أخوتهم وأخواتهم مباشرة للمنظمات والجمعيات الخيرية في الخارج. والحال، فقد بات الفرق واضحاً بين أداء مؤسسات المعارضة الرسمية المرتهنة، وبين الأداء الشعبي الحرّ النابع من ضمائر الناس الحيّة.
لا يشكّ سوريّ واحد، حتى أولئك المحسوبين على حاضنة النظام، بأنّ الهدف من وراء قرار مجلس وزراء نظام الأسد الذي صدر في العاشر من الشهر الجاري بتسمية المناطق المنكوبة من سوريا، ومن ضمنها مناطق المعارضة الواقعة الخارجة عن سيطرته، إنما هو للاستثمار السياسي والمالي في هذه الكارثة. فمن جهة أولى، قام النظام بسرقة المعونات المخصصة للمنكوبين في مناطق سيطرته، والتي باعها مباشرة في السوق السوداء، وهو ما يعني أنه لن يكون رؤوفاً بالمنكوبين الموجودين خارج مناطق سيطرته، الذين كان هو سبب تهجيرهم وتشريدهم، ومن جهة ثانية، يظهر هذا السلوك مدى الدهاء في إجمال مناطق المعارضة في عداد المناطق المنكوبة، إذ سعى النظام بذلك إلى الإعلان عن مسؤوليته عنها رغم عدم سيطرته الفعلية عليها، وبالتالي حاول الإيحاء بأنه الممثل الوحيد للدولة السورية وما يستتبع ذلك من استفادة للعوائد السياسية والمالية لهذا الإعلان، وذلك على عكس تصرف الحكومة المؤقتة والائتلاف اللذين عجزا عن فهم هذه النقطة، بل سدّا، بغباءٍ منقطعِ النظير، أبواب الدعم القادمة من داخل سوريا، الأمر الذي سينعكس سلباً على المساعدات القادمة من خارجها، ما يعني أن فعلتهم هذه باتت تمثل القشّة التي ستكسر ظهر هذه المؤسسات المنخورة بالفساد والتسلّط وانعدام الكفاءة.
قصارى القول، ستمضي هذه الأيام العصيبة، وتأخذ معها الكثير من الزبد الذي طفح على السطح خلال السنوات الماضية، سيكون من الطبيعي في هذه الأثناء التفكير بمسارات جديدة لإنهاء حالة الانقسام السوري، ولئن كانت الأولوية الآن منصبّة على معالجة الآثار الإنسانية للكارثة، فإنّ الآثار السياسية المترتبة عليها لا تقلّ عنها أهميّة أبداً. سيكون لزاماً علينا البدء في إنتاج خطاب سوري جديد، والبدء بوضع خارطة طريق مختلفة للتعامل مع الواقع، وفرز القوى الموجودة في الفضاء العمومي وفق تراتبية مغايرة لما كان سائداً قبل كارثة الزلزال.
12-02-2023
مقال جيد، شكرا اخ حسان