في البدائل الممكنة لمناصرة الحق (2)

0

-حسان أسود –

يمكننا بكلّ بساطة وشجاعة أن نقول: لقد خسرنا معركة في حربنا الطويلة ضدّ الاستبداد، سنتوقّف لبرهة نأخذ فيها نفساً عميقاً، نتأمّل جراحنا وما بقي من أجسادنا المنهكة، ونبدأ دراسة أسباب هذه الخسارة المؤقتة، ثم سنواصل التجهّز لمعركتنا القادمة في هذه الحرب المستمرّة لا محالة.

لقد كان نتاجنا السياسي هزيلاً لدرجة أننا لم نستطع أن نؤسس لهيئة واحدة قادرة على ترجمة تضحيات السوريات والسوريين إلى مكاسب حقيقيّة لا على مستوى الوطن ولا حتّى على مستوى الثورة. كما كان خيارنا أو بالأحرى قبولنا بخيار العسكرة والكفاح المسلح أكثر خطأ ودماراً وأشدّ وطأة علينا من أيّ خيار آخر.

لم يبق لدينا سوى بعض القنوات القانونية والمجتمعيّة الصغيرة التي يمكن أن نعمل من خلالها على متابعة مسيرتنا الطويلة نحو الاستقلال الثاني ونحو الحريّة الأولى. كان يمكن لنا منذ البداية أن نعمل على هذه البدائل المعقولة، بل كان من واجبنا أن نعمل عليها، لكنّ الحكمة تأتينا في الوقت الذي لا نعود فيه بحاجة إليها كما قالت مرّة إيزابيل الليندي.

وللإجابة عن السؤال المُلحّ باستمرار: ماذا علينا أن نفعل؟ يمكننا القول بأنه هكذا يمكن أن تكون متابعتنا، من حيث وصل جهد الكثير من العاملين في الحقل القانوني، لن نخترع العجلة من جديد ولن نخترع البارود مرّة ثانية، بل يجب أن نحاول إتمام جهد سنوات طويلة من التوثيق والعمل المُضني في جمّع الأدلّة وإفادات الشهود والضحايا الناجين من هذا الهولوكوست.

لقد بات من المعروف للقاصي قبل الداني أنّ طريق العدالة الجنائيّة الدولية مغلقٌ بسبب تراكم الاعتراضات الروسيّة (حق النقض Veto). وهذا الطريق يتمثّل عادة باللجوء إلى المحكمة الجنائيّة الدولية بعد إحالة ملف الجرائم المشتبه بارتكابها في بلد ما من قبل مجلس الأمن الدولي، كما يمكن أن يتمثّل بإنشاء محكمة جنائية دولية خاصّة من قبيل محكمة يوغسلافيا السابقة أو محكمة رواندا أو سيراليون، لكنّ كلا الاحتمالين باتا في حكم المستحيل بسبب موقف روسيا المتعنّت.

بدأ تجاوب المجتمع الدولي مع المأساة السوريّة متأخراً وخجولاً، ففي 22-8-2011 صدر عن مجلس حقوق الإنسان القرار رقم 1-17-S الذي أنشئت بموجبه لجنة التحقيق الدولية المستقلّة أو لجنة تقصّي الحقائق، “التي عُهدَ إليها بولاية التحقيق في جميع الانتهاكات المزعومة للقانون الدولي لحقوق الإنسان منذ آذار 2011 في الجمهورية العربية السورية، وكُلفت بالوقوف على الحقائق والظروف التي قد ترقى إلى هذه الانتهاكات والتحقيق في الجرائم التي ارتُكبت وكذلك، حيثما أمكن، تحديد المسؤولين عنها بغية ضمان مساءلة مرتكبي هذه الانتهاكات، بما فيها الانتهاكات التي قد تشكل جرائم ضد الإنسانية.” (1)

ولمن لا يعرف تعقيدات القوانين الدولية والاختصاصات والفروق بين فروعه المختلفة يمكننا أن نشرح ببساطة وأن نلخّص الفارق بين القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي بجمل بسيطة:

يرتّب القانون الدولي لحقوق الإنسان التزامات على الدول لاحترام المعاهدات التي صادقت عليها في مجالات حقوق الإنسان، لكن دون وجود مؤيدات جزائيّة رادعة في حال عدم الإيفاء بهذه التعهّدات. (2)

بينما يختصّ القانون الإنساني الدولي بتحديد عناصر المسؤوليّة الجنائيّة الفردية عن الجرائم المرتكبة خلافاً لأحكامه مع وجود مؤيدات جزائيّة في حال عدم الإيفاء بهذه الالتزامات القانونية. (3)

باعتبار أنّ مجلس حقوق الإنسان بوصفه هيئة حكومية دولية داخل منظومة الأمم المتحدة مسؤولة عن تدعيم تعزيز جميع حقوق الإنسان وحمايتها في جميع أرجاء العالم وعن تناول حالات انتهاكات حقوق الإنسان وتقديم توصيات بشأنها” فإنّه ليس لقراراته أو لقرارات اللجان التي يشكلها للتحقيق بالانتهاكات أية قوّة إلزاميّة مدعومة بمؤيدات جزائيّة، وهكذا كانت قرارات لجنة تقصّي الحقائق المشكّلة من قبله، فقد أصدرت أكثر من عشرين تقريراً عن الانتهاكات المرتكبة في سوريا دون أن يكون لها من قيمة فعلية على أرض الواقع يلمسها الناس بشكل حقيقي.

 بناءً على ذلك وإحساساً من الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة بالمسؤولية الإنسانيّة والأخلاقيّة، وتداركاً لأي احتمال مستقبلي بتغيّر الظروف السياسية الدولية، واستكمالاً لجهودها السابقة في جمع الأدلّة، فقد أقرّت إنشاء “الآليّة الدوليّة المحايدة والمستقلّة IIIM” بموجب قرارها رقم 248-71 بتاريخ 21-12-2016.

“وقد أسند القرار المذكور إلى الآلية مهمة استقصاء وتجميع وحفظ وتحليل الأدلة حول انتهاكات القانون الدولي الإنساني وانتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان، وإعداد ملفات لتيسير وتسريع السير في إجراءات جنائية نزيهة ومستقلة، وفقاً لمعايير القانون الدولي، في المحاكم الوطنية أو الإقليمية أو الدولية التي لها، أو قد ينعقد لها مستقبلاً، الاختصاص بهذه الجرائم وفقاً للقانون الدولي. (4)

 الفارق بين النتائج المرجوّة من عمل لجنة تقصّي الحقائق وتلك المرجوّة من عمل (IIIM) هو أن تقارير الأولى لا تعدو كونها توصيات ترفعها إلى مجلس حقوق الإنسان الذي ليس لقراراته أية قوّة إلزامية، وفي أحسن الأحوال يمكن الاستئناس بها في بناء الملفات من قبل اللجان أو المنظمات أو الهيئات العاملة على هذا الملف مستقبلاً، بينما الملفات الناتجة عن عمل الثانية ستكون بمثابة أدلّة جاهزة وفق أعلى المعايير الدولية للاستخدام في المستقبل عندما تتغير الظروف السياسية الدولية ويصبح بالإمكان البدء بمسارات حقيقية للعدالة الانتقالية في سوريا.

وباعتبار أنّ قوانين بعض الدول الأوروبيّة تأخذ بما يسمّى اصطلاحاً “الولاية القضائيّة العالمية” فإنه سيكون بإمكاننا التحرّك ضمن هذا المجال المتاح لتحقيق بعض الأهداف القانونية وحتى السياسية. (5)

يُشكّل مبدأ الولاية القضائيّة العالميّة خروجاً عن القواعد العاديّة للقضاء الجنائي التي تستلزم علاقة إقليمية أو شخصيّة بالجريمة أو بمرتكبها أو بالضحيّة. ويستند هذا المبدأ إلى الأساس المنطقي القائل إنّ “بعض الجرائم تُلحق أضراراً فادحة بالمصالح الدوليّة فيصبح من حقّ الدول – بل من واجبها- مقاضاة مرتكبي تلك الجرائم بصرف النظر عن مكان الجريمة وجنسية مرتكبها أو الضحيّة” (6)

ما يمكن أن يحققه لنا اللجوء إلى مبدأ الولاية القضائيّة العالمية معقول جدّاً وإن كان غير كافٍ على الإطلاق. يمكننا أن نبني ملفّات كاملة وأن نقدّمها إلى المدعين العامّين في دول مثل السويد وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وهولندا وإسبانيا – مع بعض الاختلافات بين كلّ منها في بعض الجوانب- ويمكن للمدّعين العاميّين بعد الاطلاع على الملفات فتح تحقيقات جنائيّة قد تصل كما حصل في ألمانيا إلى حدّ إصدار مذكّرات توقيف على الغياب بحق بعض المتهمين.

ما يمكن أن نحققه سياسيّاً من هذه الملفات كبير نسبيّاً، حيث أنها ستشكّل عقبة كأداء أمام أية حكومة أوروبيّة أجرى قضاؤها تحقيقات جنائيّة بحق جرائم مرتكبة في سوريا، إذا ما فكّرت هذه الحكومات بالانجرار وراء سياسة روسيا لإعادة تعويم نظام حكم الأسد الديكتاتوري. كما إنّها ستشكّل رافعة قويّة للتواصل مع الرأي العام الغربي والعالمي الذي يحترم ويثق بقرارات أجهزة القضاء في هذه الدول الديمقراطيّة.

بقي أن نعرف أنّ الكثير من المحامين السوريّين يعملون منذ سنوات داخل سوريا وخارجها، بصبر وأناة كبيرين وبدون ضجيج على تحضير الملفّات القانونيّة اللازمة لهذا الأمر، وسيكون أمام أمّهات الضحايا والمفقودين أملٌ في الوصول إلى العدالة ولو بعد حين.

فهرست المراجع:

  1. الموقع الإلكتروني لمجلس حقوق الإنسان- الأمم المتحدة.
  2. القانون الدولي لحقوق الإنسان: هو منظومة من القواعد الدولية المصممة لحماية وتعزيز حقوق الإنسان لجميع البشر بغض النظر عن جنسيتهم أو مكان إقامتهم أو جنسهم أو أصلهم القومي أو العرقي أو لونهم أو ديانتهم أو لغتهم أو أية مكانة أخرى. مصادر هذا القانون هي: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمعاهدات الدولية الأساسية المتعلّقة بحقوق الإنسان والقانون الدولي العرفي.
  3. القانون الإنساني الدولي: هو مجموعة من القواعد، تهدف لأسباب إنسانيّة، إلى الحدّ من آثار النزاع المسلّح، وهو يحمي الأشخاص الذين لم يعودوا قادرين على المشاركة في الأعمال القتالية، كما يحدد وسائل الحرب وطرائقها، وهو جزء من قانون الحرب المتعلّق بالكيفيّة التي يمكن بها استخدام القوّة.
  4.  المنتدى القانوني السوري- ملخّص تنفيذي تاريخ 7-3-2018- القاضي رياض علي.
  5.  الولاية القضائية العالمية أو الشاملة هي سلطة مقاضاة الأشخاص الذين يُدّعى ارتكابهم لجرائم دولية خطيرة بصرف النظر عن موقع الجريمة وجنسيّة مرتكبها أو جنسيّة الضحيّة.
  6. الحماية القانونية الدولية لحقوق الإنسان في النزاع المسلّح- ص 87 منشورات الأمم المتحدة – مكتب المفوّض السامي.

اترك رد