مُقارباتٌ لا بدّ منها

0

حسان الأسود

نشرت جريدة هانوفر العامّة (Hannoversche Allgemeine Zeitung) في عددها الصادر يوم الجمعة في 10 آب 2018 مقالاً صحفيّاً يتحدّث عن مظاهرة أو وقفة احتجاجيّة قام بها ما يقرُب من مائة شخص في مدينة شونبيرغ التابعة لولاية مكلينبورغ فوربوميرن الواقعة شمال ألمانيا الاتحادية.

 يتحدّث المقالُ عن حادثة صدم بجرّار زراعي بتاريخ 20-6-2018 تعرّض له طفلٌ سوري اسمه مازن، توفّي على إثره بعد ثلاثة أيام في المشفى، وتتابع الجريدة تفاصيل ما تبع هذا الأمر من تطوّرات وأحداث.

هذا الحادث العادي غير المقصود والخالي من أيّة شبهة جنائيّة – مع مأساويّته بالنسبة لعائلته السوريّة التي هربت عام 2015 بأبنائها من البراميل الهاطلة من السماء دون أن يعرف السيد ديمستورا مصدرها – لم يكن اعتياديّاً كذلك لسكّان تلك المدينة الصغيرة الذين يبلغ عددهم فقط 4600 نسمة، فقد قام مجهولون برسم شعار النازيّة وهو الصليب المعقوف على الأرض في مكان الحادث الأليم، وتكرّر هذا الأمرُ مرّة ثانية بعد عدّة أيام.

عبّر أهلُ البلدة عن حزنهم وألمهم العميقين لوفاة الطفل مازن ووقفوا مع أهله في محنتهم ومأساتهم، كما عبّر المتظاهرون عن صدمتهم الكبيرة واستهجانهم الشديد لهذه الحالة الفريدة من العنصريّة حيث يستطيع إنسانُ ما أن يجعل من وفاة طفلٍ بريء بحادث سير عاديّ مجالاً للتعبير عن موقف لا إنساني ولا أخلاقي ولا قانوني أيضاً من المهاجرين أو اللاجئين أو الأجانب عموماً.

يطرح هذا الحادث بجوانبه المختلفة تساؤلات عديدة حول انبعاث النزعات العنصريّة مجدّداً في مجتمعات العالم الغربي المتمثّل بأستراليا وأوروبا وأميركا على وجه الخصوص باعتبار أنّ هذه الدول قطعت أشواطاً طويلة في مجالات حقوق الإنسان.

قد يكون بُعد استراليا- كدولة قائمة على قارّة كاملة- عن ساحة الفعل الدولي سبباً يجعل من موضوع الممارسات العنصرية فيها غير مبحوث فيه كثيراً خارج حدودها، فقد استدعت المواقف المتشددّة للحكومة اليمينيّة فيها إعجاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال محادثة مع رئيس الوزراء الأسترالي

فرغم الخلافات الكثيرة بينهما لم يستطع ترامب إلّا أن يبدي إعجابه بهذا التشدّد حيال المهاجرين واللاجئين قائلاً: ” إنها فكرة جيدة. يجب أن نفعل ذلك نحن أيضا. أنتم أسوأ مني”.

بالمقابل لاقت سياساتها هذه انتقادات كثيرة من المنظمات الحقوقيّة الدولية التي اتهمت الحكومة الأستراليّة بانتهاك ومخالفة القانون الدولي والمعاهدات والمواثيق الدوليّة وخاصّة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

“قال ستيفن كاسلز الخبير في الهجرات الدولية في جامعة سيدني، لوكالة فرانس برس: هناك فرق كبير، أوروبا والولايات المتحدة لديهما حدود بريّة ومن الصعب جداً منع الناس من القدوم، لا شك ان أستراليا تشكّل مثالاً للولايات المتحدة وبعض القادة الأوروبيين، لكن فعلياً أستراليا تنتهك واجباتها في مجال حقوق الانسان بصفتها دولة موقعة لمعاهدات الامم المتحدة حول اللاجئين.”(1)

في أميركا أثارت سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن الهجرة استهجاناً كبيراً من بعض الفئات كما تلاقي أيضاً تأييداً واسعاً من أنصار ترامب وناخبيه، وقد لاقت أيضاً الكثير من الغضب والنقاش حول العالم. ففي مجال ردود الأفعال على فصل الأبناء عن آبائهم القادمين لطلب اللجوء أو للهجرة غير الشرعية على الحدود المكسيكيّة قال الأمير زيد بن رعد الحسين المفوض السامي لحقوق الإنسان، في بيان لدى افتتاح جلسة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف: “فكرة أن تسعى أي دولة لردع الأهالي عبر التسبب بإيذاء الأطفال بهذه الطريقة هو أمر غير مقبول”.

كما حث البابا فرنسيس الرئيس دونالد ترامب على وضع حدّ لسياسة فصل الأطفال عن آبائهم.

وقالت سيدة الولايات المتحدة الأولى ميلانيا ترامب إنها: لا تحتمل مشاهدة الأطفال المفصولين عن عائلاتهم”. ودعت إلى “الحكم بالقلب” في إشارة إلى الرأفة بالأطفال.

وعلى صعيد داخلي أطلق عضو مجلس الشيوخ في الكونغرس الأميركي عن الحزب الديمقراطي جيف ميركلي على هذه السياسة وصف “سياسة الشر” بعد زيارته لمركز اعتقال براونزفيل حيث قال: “إنهم يسمونها سياسة عدم التسامح، ولكن الاسم الأفضل هو عدم وجود الإنسانية، لأنه لا يوجد أي منطق على الإطلاق لهذه السياسة”.

كما قال بول ريان، رئيس مجلس النواب: “لا نريد فصل الأطفال عن آبائهم، ولهذا السبب أعتقد أن هناك حاجة لاعتماد قانون جديد حول الهجرة”.

وفي أوروبا تختلف المواقف من المهاجرين، فبينما تسعى المستشارة الألمانية ميركل إلى الإبقاء على سياسة الانفتاح في مسألة الهجرة المعروفة في ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يسعى وزير داخليتها ورئيس حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي CDU إلى انتهاج سياسة أكثر تشدّداً وصرامة بهذا الشأن. وها هي المظاهرات المعادية للأجانب والمظاهرات المضادّة لها تشتعل وتُشعل مدينة كيمنتس في ولاية سكسونيا إثر توقيف شابين أحدهما سوري بتهمة قتل شاب ألماني منذ عدّة أيام..

كذلك في النمسا دافع المستشار النمساوي المحافظ سباستيان كورتس وشريكه في الائتلاف الحاكم زعيم حزب الأحرار اليمني المتطرف كريستيان شتراخه عن سياسة التشدّد هذه بحجّة توفير حياة أفضل للنمساويين بدلاً من الإنفاق على اللاجئين، وكان التصريح الأقوى هو ذاك الصادر عن وزير الداخلية النمساوي هربرت كيكل وهو من حزب الأحرار اليميني مما أسماه “تهديد المهاجرين للثقافة والنظام الاجتماعي القائم في أوروبا”، واصفاً تدفق المهاجرين منذ عام 2015 بأعداد كبيرة بأنه “تحدٍّ كبير مازالت أوروبا تعانيه”.

وفي تقريرها لعام 2017 وبداية عام 2018عن بلغاريا تقول منظمة العفو الدولية:

(استمرّت عمليات الاحتجاز غير المبرر، وصدّ اللاجئين، وإساءة معاملتهم عند الحدود، ولم تُوفر الخدمات الضرورية للمهاجرين واللاجئين، بما في ذلك للأطفال غير المصحوبين بذويهم، وازدادت أجواء كراهية الأجانب والتعصب حدةً، وظل يتهدد طائفة الروما خطر التمييز المتفشي.(

في شهر شباط، رفضت السلطات المحلية ببلدة إيلين بيلين استقبال أسرة سورية مُنحت وضع استحقاق المساعدة الإنسانية في بلغاريا، وهدد حاكم البلدة علنًا بأنه “غير مرحب بالمسلمين القادمين من سوريا” ورفض تسجيلهم أو استخراج وثائق هوية لهم، كما أبدت البلديات الأخرى على نحو مماثل عدم استعدادها لاستيعاب اللاجئين.) (2)

وفي بريطانيا أثارت تصريحات وزير الخارجيّة المستقيل بوريس جونسون عن النقاب النقاش مجدّداً حول أمور كثيرة، منها الشعبويّة المتنامية في بريطانيا كما في بقيّة العالم الغربي، ومنها الخوف من الآخر المختلف أو الخوف العميق الغريزي من الألوان التي بدأت تطغى على اللون الأبيض أو اللون الأشقر الذي يرمز للنّقاء الأوروبي حسب مفاهيم عميقة يخجل الكثير من الساسة الحديث عنها مباشرة.

هي إذن موجة تجتاح العالم الغربي من أدناه إلى أقصاه دون أن تقتصر على فئات بسيطة من المجتمع كما كان حالها سابقاً، بل بات التطرّف بهذا الاتجاه مدعاة للفخر وللمزايدات التي تقوم بها أحزاب اليمين في أوروبا.

وإذا علمنا أنّ هذه الدول جميعها من الدول الديمقراطية التي تنجح فيها الحكومات بأصوات الأغلبية الشعبية في صناديق الاقتراع من خلال عمليات ديمقراطية حقيقية، لوجدنا أنّ هذا الأمر لم يأت من فراغ، بل تكمن وراءه أسباب كثيرة دعت إلى تحوّل المزاج العام بهذا المنحى المتشدّد نوعاً ما من قضايا الهجرة واللجوء.

لقد كان التطرّف اليساري سائداً في الربع الثالث من القرن الماضي أي بين السبعينيّات والثمانينيّات، ثم بدأ يتحوّل شيئاً فشيئاً نحو التطرّف اليميني في التسعينيّات وبداية الألفية الثالثة، وقد عزز ظهور تنظيم القاعدة ثم ما تفرّع عنه من تنظيمات إرهابيّة مثل النصرة وداعش خلال السنوات الماضية هذا التوجّس في الغرب عموماً من الأجانب وخاصّة من القادمين من الشرق الأوسط.

لكننّا نجد مقاومة حقيقيّة وفعّالة لهذه الاستطالات العنصرية من قبل المواطنين الغربيين ذاتهم، تتمثّل هذه المقاومة بالأفراد والمنظمات والأحزاب، المسألة التي تجعل المراقب يعتقد بأنّه لا خوف على هذه البلدان من انتشار التطرّف أكثر باعتبارها تمتلك أدوات مجتمعيّة وقانونية كافية لمحاربته، كما إن إرثها الكبير في مجال ممارسة الحريّات السياسية والمدنيّة يجعل من الصعب على هذا التطرّف أن يأخذ مكانة حقيقيّة بعد زوال أسبابه الشعبوية.

فهل سيكون أفول عصر “الترامبيّة” من بلدان راسخة فيها الحريّات العامّة والحقوق الدستوريّة مثل إنكلترا وألمانيا وأميركا ذاتها؟

سيتوقّف ذلك بدرجة أو بأخرى على مقدار فهم كيف أنّ هذه المظاهر المتنامية من العنصرية ليست حالة اجتماعيّة معزولة عن سياقاتها التاريخية والثقافية من جهة، كما يتعلّق أيضاً بمدى اعتبارها بشكل أو بآخر نتاجاً طبيعيّاً لتجاذبات الأوضاع الاقتصاديّة والسياسيّة العالميّة التي تترك أثرها عميقاً في مصائر الشعوب والأفراد، وكيف أنّها جزء من نتائج دورة رأس المال الطاحنة عبر العالم.

بمقدار ما نتمكّن من فهم أنّ هذه المظاهر تعبّر بشكل أو بآخر عن آليات دفاع استباقيّة ضدّ التحوّلات القادمة نتيجة العولمة ونتيجة الثورة التكنولوجيّة وثورة المعلوماتية وثورة البرمجيّات الدقيقة والفضاءات الافتراضيّة التي هي من أهمّ سمات العصر الراهن، بمقدار ما نستطيع التعامل معها وتقليص أضرارها على الإنسانيّة ومسيرة التحضّر البشريّ وعلى أطفال آخرين كالطفل مازن وعلى عائلات أخرى كعائلته.

اترك رد