في البدائل الممكنة لمناصرة الحق (1)

0

حسان الأسود

لقد تطوّرت وسائل الكفاح ضدّ الاستبداد عبر التاريخ، فكانت تتراوح بين الفكر والسياسة وصولاً إلى العنف الذي قد يبلغ حدّ استخدام السلاح أو حدّ الحرب الداخليّة التي قد تتصاعد لتصبح حرباً أهليّة. وكانت الانتفاضات الشعبيّة والثورات دوماً طرقاً تلجأ إليها الشعوب أو الطبقات الفقيرة المغلوبة على أمرها، بدءاً من ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس في مواجهة أباطرة روما وانتهاءً بانتفاضة أهل البصرة في جنوب العراق في مواجهة أباطرة الفساد التابعين لملالي طهران.

لكنّ التطوّر الأبرز كان مع بدايات القرن العشرين حين بدأ القانون الدولي يأخذ دوره كأداة هامّة وفعّالة في مناصرة الحق. ورغم محدوديّة الجوانب التي يمكن من خلالها للقانون الدولي المساعدة في مكافحة الاستبداد ومناصرة الضحايا والمظلومين، إلّا أنّ دوره أخذ يتنامى في نهايات النصف الأول من القرن العشرين، حيث تمثّلت البدايات بمحاكمات نورنبيرغ الشهيرة، التي كان المتهمون الرئيسيون فيها، القادة العسكريّين النازيين والأطبّاء الذين أشرفوا على التجارب الطبيّة على البشر.

تطوّر الوضع مع إنشاء المحكمة الجنائيّة الدولية في يوغسلافيا السابقة والمحكمة الجنائية الدولية في رواندا، وتكلل أخيراً في إنشاء المحكمة الجنائيّة الدولية كأول جهاز قضائي دولي دائم مختص بمحاكمة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان.

لكنّ المثلب الأكبر الذي تُرمى به آليّات المناصرة هذه، وخاصّة محكمة الجنايات الدولية، أنها تخضع قبل تفعيل عملها في حالة ما لاعتبارات سياسية كثيرة، مما يعطّل بشكل كبير إمكانية فتح ملفات القضايا أمامها، وبالتالي يعطّل عملها ويعطّل العدالة والانتصاف للضحايا.

يتطلّب إنشاءُ محكمة جنائيّة خاصة بالحالة السورية مثلاً قراراً من مجلس الأمن الدولي، كذلك الأمر فيما يتعلّق بإحالة ملف الجرائم المرتكبة في سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية، وكلا الأمرين مستحيل التحقق بسبب الفيتو الروسي. الأمر نفسه ينطبق على جميع حالات الجرائم المرتكبة في دول الربيع العربي بدءاً من مصر ووصولاً إلى اليمن.

وفي سوريا اعتاد المحسوبون على الثورة أن يصفوا الوضع بأنه احتجاجات سلمية تطوّرت بالتصاعد إلى أن أصبحت ثورة شعبيّة عارمة، وإلى زمن قريب كان أغلبهم ينزعج عند وصف الأمر بالحرب الأهليّة.

أمّا من الناحية القانونية فيوصف الوضع في سوريا بأنّه نزاعٌ مسلّحٌ ذو طابع غير دولي في أحد جوانبه وذو طابع دولي في جانب آخر منه، كما هو توصيف منظّمة الصليب الأحمر الدولي ولجنة تقصّي الحقائق التابعة للأمم المتّحدة والخاصّة بسوريا وكما هو رأي العديد من المختصّين ذوي التأهيل العالي.

مع غياب أية إمكانية لتحقيق العدالة ضمن إطار القضاء المحلي والمحاكم الوطنية في جميع دول الربيع العربي بسبب استلابها من قبل أنظمة الحكم وتبعيّتها وعدم حيادها واستقلالها ونزاهتها، لم يبق للساعين وراء العدالة في هذه الدول إلّا اللجوء إلى مبدأ الولاية القضائيّة العالميّة.

بدايةً – وبكلمات بسيطة تشرح لغير المختصّين – لابدّ من التعريف بمبدأ الاختصاص القضائي المحلي، الذي يقوم على ضرورة وجود ارتباط مكاني أو شخصي أو موضوعي وثيق بين سلطة القضاء الوطني واختصاصه للنظر في جرم ما، وبين الفعل المرتكب والمُشكِّل لعناصر الجرم المحدّد.

بعبارة أخرى، يجب أن يكون الجاني أو المجني عليه من رعايا الدولة المعنيّة، أو يجب أن يُرتكب الجرم على أرضها أو على أرض إقليم أو دولة تسيطر عليها أو تحتلّها قوّاتها، أو في مكان يتبع حسب القانون الدولي العام لسيادتها هذه، مثل مقراتها الدبلوماسيّة في الخارج ومثل الطائرات والسفن التي ترفع علمها.

لكنّ مبدأ الولاية القضائيّة العالميّة شذّ عن هذا الأمر، واعتبر أنه من حق، بل من واجب الدول أن تلاحق الجرائم الخطيرة المرتكبة ضدّ الإنسانية وكذلك جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعيّة، حتى ولو لم يكن الجاني أو الضحية من رعاياها وحتى لو لم يرتكب أي عنصر من عناصر الجرم على أراضي إقليمها أو أي إقليم خاضع لسيطرتها.

يمكننا أن نجد المصدر التشريعي لهذا المبدأ في القانون الدولي العرفي، حيث نصّت اتفاقيّة جنيف الرابعة المتعلّقة بحماية المدنيين، على أنّ الدول الأطراف في الاتفاقيّة:

“ملزمة بملاحقة المتهمين باقتراف مثل هذه المخالفات الجسيمة لهذه الاتفاقيّة أو الأمر باقترافها، وبتقديمهم، أيّاً كانت جنسيتهم، إلى المحاكمة أمام محاكمها الخاصّة. ويجوز لها أيضاً، إذا فضّلت ذلك، وطبقاً لأحكامها التشريعيّة، أن تسلّمهم إلى طرف متعاقد معنيّ آخر ما دامت تتوفر لدى الطرف المذكور أدلّة اتهام كافية ضدّ هؤلاء الأشخاص.”

ويستند هذا المبدأ إلى الأساس المنطقي القائل إنّ:

“بعض الجرائم تُلحق أضراراً فادحة بالمصالح الدوليّة فيصبح من حقّ الدول – بل من واجبها- مقاضاة مرتكبي تلك الجرائم بصرف النظر عن مكان الجريمة وجنسية مرتكبها أو الضحيّة” (1)

من الدول التي تأخذ بمبدأ الولاية القضائيّة العالميّة، الأردن، السويد، ألمانيا، فرنسا، إسبانيا، هولندا وبريطانيا. ويتميّز مبدأ الولاية القضائيّة العالميّة في كل دولة من هذه الدول بخصائص ومميزات مختلفة حسب النظام القضائي السائد في كلّ منها.

ففي الأردن مثلاً “يُعرَّف الاختصاص العالمي، بشكل عام، على أنه نظام يجوز من خلاله للدول تطبيق قوانينها الداخلية على الجرائم التي ترتكب في الخارج، من قبل الأجانب المقيمين أو الموجودين ماديا فيها، على الرغم من عدم وجود أي رابط تقليدي كرابط الإقليمية، أو الشخصية، أو العينية بين تلك الدول والجريمة المرتكبة”.

ويشترط لانعقاد الاختصاص للقضاء الأردني عدّة شروط أهمها: أن يكون المتهم أجنبيّاً غير أردني وأن يكون مقيماً في الأردن وأن يكون طلب استرداده لم يقدّم أو لم يقبل. (2)

أمّا في بريطانيا – حيث يسود نظام القانون العام – فإنّ أي دعوى قضائيّة يجب تقديمها من قبل دائرة الادعاء المَلَكيّة، والتحقيق الرسمي يجب أن تجريه وحدة متخصصة في قيادة شرطة مكافحة الإرهاب (SO15). ثم بعد ذلك يتم إرسال الشكوى إلى إدارة جرائم الحرب في شرطة العاصمة، والتي ستقوم بعد ذلك بفحص “تحديد النطاق” للتأكّد مما إذا كانت الشكوى تخصّ أمراً يمكن أن ينتقل إلى تحقيق كامل.

إنّ العقبة الرئيسية في المملكة المتّحدة هي مسألة وجود المتهم أو وجوده المحتمل في المملكة المتحدة. دون أن يتم استيفاء هذا المعيار، من غير المحتمل ان يتعدّى أي تحقيق “مرحلة الفحص”.

وفي فرنسا – حيث يسود النظام القانوني المدني – فيمكن للمدعين العامّين والأطراف الخاصّة أيضاً وبشكل مستقل الشروع في الإجراءات. وبالتالي يمكن للضحايا وغيرهم من الأطراف المتضررة، بما في ذلك المنظمات غير الحكوميّة، تقديم شكوى جنائيّة مباشرة إلى قضاة التحقيق بدلاً من المرور عبر المدعين العامّين.

لكن تتمثل العقبة الكأداء في طريق هذه الآلية لمناصرة الحق وإنصاف الضحايا باشتراط إقامة المتهم بانتظام في فرنسا.

يختلف الأمر جذريّاً في ألمانيا التي تعترف قوانينها بالولاية القضائيّة العالمية الحقيقيّة، حيث لا تتطلّب أي صلة بين الجريمة المرتكبة في الخارج وألمانيا، بما في ذلك مسألة الإقامة قبل أن يتمكن ممثلو الادعاء من التحقيق والمحاكمة. (3)

ورغم محدوديّة قدرات أجهزة القضاء وأجهزة التحقيق ووحدات الجرائم الدولية في الدول التي تأخذ بمبدأ الولاية القضائية العالمية، ورغم محدودية القضايا التي يمكن أن يفتح بها تحقيقات وفق هذه الولاية، ورغم طبيعة النتائج النهائية الممكن الوصول إليها نتيجة اتّباع هذا النهج من الملاحقات القانونية، إلّا أن هذه الوسائل القانونية تبقى هامّة ومُعتبرة كبدائل معقولة لمتابعة الكفاح ضدّ الجرائم المرتكبة في بلدان العالم المختلفة. ونحن – في بلدان الربيع العربي – أحوج ما نكون لهذه الطرق لتذكير الرأي العام الدولي عامة والغربي خاصّة بمأساة شعوبنا في مواجهة الديكتاتوريّات المدعومة غالباً من قبل حكومات هذه الدول ذاتها.

 

المراجع:

1-      الحماية القانونية الدولية لحقوق الإنسان في النزاع المسلّح- ص 87 منشورات الأمم المتحدة – مكتب المفوّض السامي.

2-      مأمون أبو زيتون – الاختصاص القضائي العالمي في القانون الأردني- بحث علمي قانوني مقارن منشور بتاريخ 30-6-2014

3-      آليات المحاسبة عن الجرائم المرتكبة في سوريا- دليل التدريب الصادر عن معهد حقوق الإنسان في رابطة المحامين الدولية ص 44.

 

اترك رد