العلمانية… بعيداً عن اللغو

0

د. سميرة مبيض 

تميل المجتمعات العربية، عموماً، للتهرب من التعمق في شأن المعتقد الديني ولتجنب الحديث في مختلف وجهات النظر الفلسفية تجاه الأديان وقد يأتي ذلك كنتاج للخوف من انتقام الله في حال المساس بكل ما يتعلق هذا الموروث التاريخي وللشعور بالذنب والقلق من نظرة المجتمع تجاه كل من يجادل وينتقد ويناقش عمق هذه الأمور. قد تُضاف لتلك الأسباب ثقافة سائدة تعتمد التعميم وشمولية الوصف لأي ظاهرة وعدم الدخول في حيثيات ودقائق الأمور ومسبباتها أو في تخطيط مسارها المستقبلي.

فعلى الرغم من غنى اللغة العربية بالتوصيفات اللغوية القادرة على شرح مختلف أنواع العلاقات بين الانسان والدين وبين الإنسان والله أو بينه وبين الآلهة عموماً، فقد اقتصرت الصفة المستخدمة عربياً والرائجة شعبياً بكون الشخص مؤمن وهي الصفة المتعارف عليها اجتماعياً كصفة إيجابية أو أنه أو ملحد (أو كافر أو مُشرك) وجميعها توجه كصفة سلبية أو أقرب الى مسبة أو إهانة.

في حين أن الأمر أبعد ما يكون عن هذا التبسيط المغلوط والسطحية المشوهة، ففكر الانسان وفلسفته بالحياة وعلاقته بالغيبيات ورؤيته لمسار و جوديته و خلقه وحياته وموته تحمل من العمق والتنوع والتعدد ما لا يمكن اقتصاره على هذه المفاهيم بل يتوجب، في سياق خطوات النهوض بالمجتمعات العربية، إعادة النظر في كيفية التأسيس لفهم منطقي مستند على العلم والمنهجية الصحيحة للطيف الواسع في الآراء في هذا السياق، كما هو عليه الامر في كل ما يتعلق بالإنسانية، والخروج من قطبية المؤمن و الملحد أو ثنائية الدين و العلمانية للاقتراب من الواقع البعيد تماماً عن هذا التوصيف.

فبإمكاننا على سبيل المثال، التمييز بين الإلحاد واللادينية والعلمانية كخطوة أولى ومن ثم التمييز بين مختلف الآراء التي ظهرت في اعتقادات وفكر البشر تحت كل من هذه المفاهيم.

فالإلحاد كمصطلح، قد يعبر عن غياب الإيمان لدى الشخص بوجود الآلهة أو قد يكون اعتقاده الراسخ بعدم وجود الآلهة، بينما تعرف اللادينية بغياب الايمان بأي دين كان، بغض النظر عن الايمان بالآلهة أي أن الإنسان اللاديني ليس بالضرورة أن يكون انسان ملحد. ويُضاف الى ذلك أن اللاديني قد يحمل الفكر الأغنوستي أو ما يعرَّف باللاأدرية أي أن الانسان لا يعلم يقيناً ولا يستطيع الجزم بأي من الفرضيات المتعلقة بوجود أو عدم وجود الآلهة أو عن ماهية الاله و كيفية تدخله بحياة البشر و حياة الأرض و حتى ضمن هذا المفهوم نجد تشعباً بين من يعتقد بإمكانية عقل الانسان ادراك مفهوم الوجود الإلهي يوماً ما أو بعدم مقدرته النهائية على اثبات أو عدم اثبات الوجود الإلهي مهما طال الزمن. كما تضم اللادينية مفهوم الربوبية وهي الايمان بوجود إله لكن مفهومه وماهيته لم تُذكر في أي من الأديان المتاحة بين يدي الإنسان أو مفهوم وحدة الوجود الذي يندرج تحت بند اللادينية أيضاً.

رغم تعدد هذه المفاهيم أو ما يبدو من تعقيدها لدى البعض، لكنها لا تصل الى توصيف جميع المفاهيم التي أظهرها في الماضي أو قد يُظهرها في المستقبل الفكر الإنساني من توجهات ومعتقدات متجددة. كل ذلك الغنى والتعدد والتجدد نجده في الثقافة العربية في سلة واحدة أو بالأحرى في قفص اتهام واحد طالما أن المفهوم المطروح يخرج عن المتعارف عليه من ثقافة سائدة.

ليس ذلك فحسب بل يُزّج بالعلمانية ضمن هذه المفاهيم، في حين أنها تصور مختلف جذرياً عن كل ما سبق لأنها ليست ايمان وليست معتقد وليست موقف تجاه دين أو فلسفة وجودية، بل هي فصل بين ما هو ديني وما هو مدني، أي أنها تسعى لاستقلالية السياسة و الاقتصاد ضمن أي بلد عن المعتقدات الدينية أو العقائدية التي تدخل هنا في نطاق الحريات الفردية التي يحترمها و يحميها القانون السائد في المجتمع طالما أنها لا تضر بحرية و حقوق الآخرين، و بالتالي فهي مفهوم لا يحكم على معتقدات الآخرين و لا يبدي موقفاً تجاهها. فالعلماني ليس ملحداً و ليس لا ديني، بل هو اختيار لمفهوم يسمح بالتواجد المشترك بين من يحمل هذه المعتقدات المختلفة و من هنا تأتي أهمية الفهم الصحيح لمفهوم العلمانية بعيداً عن اللغو و عليه فان نقيض العلماني ليس المؤمن بل هو الطائفي الذي يسعى لبناء دولة ترتبط فيها السياسة و الاقتصاد بدين أو بمعتقد معين، تستمد الدولة منه أسسها و تعود عليه بمنافعها و تحدد ضمنه مسارها. في حين تسمح العلمانية بالمساواة بين جميع المواطنين وبتطور المجتمع علمياً و فكرياً دون أي قيود قد يفرضها الارتباط بأي من المفاهيم الأخرى.

اترك رد